فصل: (سورة الأنبياء: آية 83):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{لَهُمْ مِّنَّا الحسنى} السعادة والعدة الجميلة بالجنّة {أولئك عَنْهَا مُبْعَدُونَ} والإبعاد: تطويل المسافة. واختلفوا في هؤلاء من هم؟ فقال أكثر المفسرين: عني بذلك كلّ من عُبد من دون الله وهو طائع ولعبادة من يعبده كاره، وذلك «أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل المسجد وصناديد قريش في الحطيم وحول الكعبة ثلاثمائة وستّون صنمًا فجلس إليهم فعرض له النضر بن الحارث فكلّمة رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أفحمه، ثم تلا عليه وعليهم {إِنَّكُمْ وما تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله} الآيات الثلاث، ثمَّ قام فأقبل عبد الله بن الزبعرى بن قيس بن عدي السهمي فرآهم يتهامسون قال: فيم خوضكم؟ فأخبره الوليد بن المغيرة بما قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عبد الله: أما والله لو وجدته لخصمته، فدعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له ابن الزبعرى: أنت قلت: إنّكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم؟ قال: نعم، قال: قد خصمتك وربّ الكعبة، أليست اليهود تعبد عزيرًا والنصارى تعبد المسيح وبنو مليح يعبدون الملائكة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم نعم، بل هم يعبدون الشياطين، هي التي أمرتهم بذلك، فأنزل الله سبحانه {إِنَّ الذين سَبَقَتْ لَهُمْ مِّنَّا الحسنى} الآية يعني عزيرًا وعيسى والملائكة».
قال الحسن بن الفضل: إنما أراد بقوله: {إِنَّكُمْ وما تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله} الأوثان دون غيرها لأنّه لو أراد الملائكة والنّاس لقال: ومن تعبدون، قلت: ولأنّ المخاطبين بهذه الآية مشركو مكة وهم كانوا يعبدون الأصنام.
وقال بعضهم: هذه الآية عامّة في كلّ من سبقت له من الله السعادة.
قال محمّد بن حاطب: سمعت عليًّا كرّم الله وجهه يخطب، فقرأ هذه الآية {إِنَّ الذين سَبَقَتْ} فقال: عثمان رضي الله عنه منهم.
وقال الجنيد في هذه الآية: سبقت لهم من الله العناية في البداية، فظهرت الولاية في النهاية.
أخبرني أبو عبد الله محمد بن عبد الله قال: حدَّثنا أبو الحسين محمد بن عثمان النصيبي قال: أخبرنا أبو بكر محمد بن الحسين السبيعي بحلب قال: أخبرنا أحمد بن الحسين بن عبد الجبار الصوفي قال: حدَّثنا عبيد الله القواريري قال: حدَّثنا محمد بن الحسن بن أبي يزيد الهمداني قال: حدَّثنا ليث عن ابن عمّ النعمان بن بشير وكان من سمّار علىّ قال: تلا على ليلةً هذه الآية {إِنَّ الذين سَبَقَتْ لَهُمْ مِّنَّا الحسنى أولئك عَنْهَا مُبْعَدُونَ} قال: أنا منهم وأبو بكر وعمر وعثمان وطلحة والزبير وسعد وعبد الرَّحْمن بن عوف منهم، ثم أُقيمت الصلاة فقام علىّ يجرّ رداءهُ وهو يقول: {لاَ يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا} يعني صوتها إذا نزلوا منازلهم من الجنة {وَهُمْ فِي مَا اشتهت أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ} والشهوة طلب النفس اللذّة، نظيرها قوله: {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأنفس وَتَلَذُّ الأعين} [الزخرف: 71].
{لاَ يَحْزُنُهُمُ الفزع الأكبر} وقرأ أبو جعفر بضمّ الياء وكسر الزاي، والباقون: بفتح الياء وضمّ الزاي، واختلفوا في الفزع الأكبر، فقال ابن عباس: النفخة الآخرة، دليله قوله سبحانه {وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصور فَفَزِعَ مَن فِي السماوات وَمَن فِي الأرض إِلاَّ مَن شَاءَ الله وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ} [النمل: 87].
وقال الحسن: حين يؤمر بالعبد إلى النار.
سعيد بن جبير والضحّاك: إذا أُطبقت على أهل النار.
ابن جريج: حين يذبح الموت على صورة كبش أملح على الأعراف والفريقان ينظران فينادى: يا أهل الجنّة خلود فلا موت، ويا أهل النّار خلود فلا موت.
ذو النون المصري: هو القطيعة والهجران والفِراق.
{وَتَتَلَقَّاهُمُ} تستقبلهم {الملائكة} على أبواب الجنة يهنّونهم ويقولون لهم {هذا يَوْمُكُمُ الذي كُنتُمْ تُوعَدُونَ يَوْمَ نَطْوِي السماء} قرأ أبو جعفر {تُطوى السماء} بضم التاء والهمزة على المجهول، وقرأ الباقون بالنون {السماء} نصب {كَطَيِّ السجل لِلْكُتُبِ} قرأ أهل الكوفة على الجمع، غيرهم: للكتاب على الواحد واختلفوا في {السجلّ} فقال ابن عمر والسدىّ: {السجل} ملك يكتب أعمال العباد فإذا صعد بالاستِغفار قال الله سبحانه: أُكتبها نورًا.
وقال ابن عباس ومجاهد: هو الصحيفة، واللام في قوله: {للكتب} بمعنى على تأويلها كطىّ الصحيفة على مكتوبها.
وروى أبو الجوزاء وعكرمة عن ابن عباس أنّ السجلّ اسم كاتب لرسول الله، وهذا قول غير قوي لأنّ كتّاب رسول الله كانوا معروفين وقد ذكرتهم في كتاب الربيع، والسجلّ اسم مشتقّ من المساجلة وهي المكاتبة، وأصلها من السجل وهو الدلو، يقال: سجلت الرجل إذا نزعت دلوًا ونزع دلوًا ثم استعيرت فسميت المكاتبة والمراجعة مساجلة، قال الشاعر:
من يساجلني يساجل ماجدًّا ** يملأ الدلو إلى عقد الكرب

ثم بنى هذا الاسم على فعل مثل طمر وقلز. والطي في هذه الآية يحتمل معنيين: أحدهما: الدرج الذي هو ضدّ النشر قال الله سبحانه: {والسماوات مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر: 67].
والثاني: الإخفاء والتعمية والمحو والطمس لأنّ الله سبحانه يمحو رسومها ويكدر نجومها، قال الله سبحانه وتعالى: {إِذَا الشمس كُوِّرَتْ وَإِذَا النجوم انكدرت} [التكوير: 1- 2] تقول العرب: اطو عن فلان هذا الحديث أي استره وأخفه.
ثمَّ ابتدأ واستأنف الكلام فقال عزَّ من قائل: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ} قال أكثر العلماء: كما بدأناهم في بطون أُمهاتهم حفاة عُزّلا كذلك نعيدهم يوم القيامة، نظيرها قوله سبحانه {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فرادى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الأنعام: 94] وقوله: {وَعُرِضُواْ على رَبِّكَ صَفًَّا لَّقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الكهف: 48].
ودليل هذا التأويل ما روى ليث عن مجاهد عن عائشة رضي الله عنه قالت: «دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعندي عجوز من بني عامر فقال: من هذه العجوز يا عائشة؟ فقلت: إحدى خالاتي، فقالت: ادع الله أن يدخلني الجنّة فقال: إنّ الجنّة لا يدخلها العجّز، فأخذ العجوز ما أخذها. فقال عليه السلام: إنّ الله ينشئهنّ خلقًا غير خلقهن، قال الله تعالى: {إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشاء} [الواقعة: 35] الآية ثمّ قال: يُحشرون يوم القيامة عراة حفاة غلفًا، فأوّل مَنْ يكسى إبراهيم صلوات الله عليه. فقالت عائشة رضي الله عنها وعن أبيها: واسوأتاه فلا تحتشم الناس بعضهم بعضًا؟ قال: {لِكُلِّ امرىء مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس: 37]، ثم قرأ رسول الله {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ} كيوم ولدته أُمهُ».
وقال ابن عباس: يقول: نهلك كلّ شيء كما كان أول مرّة، وقيل: كما بدأناه من الماء نعيده من التراب.
{وَعْدًا عَلَيْنَا} نصب على المصدر يعني وعدناه وعدًا علينا {إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} يعني الإعادة والبعث.
{وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزبور مِن بَعْدِ الذكر} قرأ الأعمش وحمزة: {الزبور} بضم الزاي، وغيرهما يقرؤون بالنصب وهو بمعنى المزبور كالحلوب والركوب، يقال: زبرت الكتاب وذبرته إذا كتبته، واختلفوا في معنى {الزبور} في هذه الآية، فقال سعيد بن جبير ومجاهد وابن زيد: عنى بالزبور الكتب المنزلة وبالذكر أُمّ الكتاب الذي عنده.
وقال ابن عباس والضحّاك: الذكر التوراة والزبور الكتب المنزلة من بعد التوراة.
وقال الشعبي: الزبور كتاب داود والذكر التوراة.
وقال بعضهم: الزبور زبور داود والذكر القرآن، وبعد بمعنى قبل كقوله: {وَكَانَ وَرَاءَهُم مَّلِكٌ} [الكهف: 79] أي أمامهم، وقوله: {والأرض بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} [النازعات: 30] أي قبل ذلك.
{أَنَّ الأرض} يعني أرض الجنّة {يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصالحون} يعني أُمة محمد عليه السلام قاله مجاهد وأبو العالية، ودليل هذا التأويل قوله: {وَقَالُواْ الحمد للَّهِ الذي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأرض} [الزمر: 74].
وقال ابن عباس: أراد أنّ الأرض في الدُنيا تصير للمؤمنين، وهذا حكم من الله سبحانه بإظهار الدّين وإعزازِ المسلمين وقهر الكافرين.
قال وهب: قرأت في عدّة من كتب الله أنّ الله عزّ وجلّ قال: إنّي لأُورث الأرض عبادي الصالحين من أُمة محمد صلى الله عليه وسلم {إِنَّ فِي هذا لَبَلاَغًا} وصولًا إلى البغية، من اتّبع القرآن وعمل به وصل إلى ما يرجو من الثواب، فالقرآن زاد الجنة كبلاغ المسافر.
{لِّقَوْمٍ عَابِدِينَ} أي مؤمنين يعبدون الله سبحانه وتعالى. وقال ابن عباس: عالمين، وقال كعب الأحبار: هم أُمّة محمد أهل الصلوات الخمس وشهر رمضان، سمّاهم الله سبحانه وتعالى عابدين.
{وما أَرْسَلْنَاكَ} يا محمّد {إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} قال ابن زيد: يعني المؤمنين خاصة، وقال ابن عباس: هو عامّ فمن آمن بالله واليوم الآخر كتب له رحمة في الدنيا والآخرة، ومن لم يؤمن عوفي ممّا أصاب الأُمم من المسخ والخسف والقَذف.
{قُلْ إِنَّمَا يوحى إلى أَنَّمَا إلهكم إله وَاحِدٌ فَهَلْ أَنتُمْ مُّسْلِمُونَ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُلْ آذَنتُكُمْ على سَواء} يعني أعلمتكم على بيان أنا وإيّاكم حرب لا صلح بيننا، وإنّي مخالف لدينكم، وقيل: معناه على سواء من الإنذار لم أُظهر بعضكم على شيء كتمته عن غيره، وقيل: لتستووا في الإيمان به، وهذا من فصيحات القرآن.
{وَإِنْ أدري} وما أعلم {أَقَرِيبٌ أَم بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ} يعني القيامة، نسخها قوله: {واقترب الوعد الحق}.
{إِنَّهُ يَعْلَمُ الجهر مِنَ القول وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ} أي لعّل تأخير العذاب عنكم، كناية عن غير مذكور {فِتْنَةٌ} اختبار {لَّكُمْ} ليرى كيف صنيعكم وهو أعلم {وَمَتَاعٌ إلى حِينٍ} إلى أجل يقضي الله فيه ما شاء.
أخبرنا أبو بكر الجوزقي قال: أخبرنا أبو العباس الدعولي قال: أخبرنا أبو بكر بن أبي خيثمة قال: حدَّثنا محمد بن أبي غالب قال: أخبرنا هشام قال: أخبرنا مجالد قال: حدَّثني السبعي قال: لما سلم الحسن بن على لمعاوية الأمر، قال له معاوية: قم فاخطب واعتذر إلى الناس، فقام الحسن فخطب، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إنَّ أكْيَسَ الكيس التُقى، وإنّ أحْمَق الحُمْق الفجور، وإنّ هذا الأمر الذي اختلفت فيه أنا ومعاوية إمّا حقّ امرئ كان أحقّ به، وإمّا حقّ كان لي فتركته التماس الصلاح لهذه الأُمّة، ثم قال: {وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَّكُمْ وَمَتَاعٌ إلى حِينٍ}.
{قَالَ رَبِّ احكم بالحق} افعل بيني وبين من كذبني بالحق، والله لا يحكم إلاّ بالحق، وفيه وجهان من التأويل:
قال أهل التفسير: الحق ها هنا بمعنى العذاب كأنّه استعجل العذاب لقومه فعذبوا يوم بدر وليله، نظيره قوله: {رَبَّنَا افتح بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بالحق} [الأعراف: 89].
وقال قتادة: كان رسول الله عليه السلام إذا شهد قتالا قال: «ربّ احكم بالحق».
وقال أهل المعاني: معناه: رب احكم بحكمك الحق، فحذف الحكم وأُقيم الحق مقامهُ، واختلف القراء في هذه الآية فقرأ حفص {قَالَ رَبِّ} بالألف على الخبر، الباقون: {قَالَ} على الأمر، وقرأ أبو جعفر: {ربِّ احكم} برفع الباء على النداء والمفرد، وقرأ الضحاك ويعقوب: {ربي احكم} باثبات الياء على وجه الخبر بأنَّ الله سبحانه أحكم بالحق من كل حاكم وهذه قراءة غير مرضية لمخالفة المصحف، والقرّاء الباقون: {رَبِّ احكم بالحق} على الدعاء {وَرَبُّنَا الرحمن المستعان على مَا تَصِفُونَ}. اهـ.

.قال الزمخشري:

.[سورة الأنبياء: آية 83]:

{وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83)}.
أى: ناداه بأنى مسنى الضر. وقرئ: {إنى} بالكسر على إضمار القول أو لتضمن النداء معناه والضر- بالفتح-: الضرر في كل شيء، وبالضم: الضرر في النفس من مرض وهزال، فرق بين البناءين لافتراق المعنيين. ألطف في السؤال حيث ذكر نفسه بما يوجب الرحمة، وذكر ربه بغاية الرحمة ولم يصرح بالمطلوب. ويحكى أنّ عجوزا تعرضت لسليمان بن عبد الملك فقالت: يا أمير المؤمنين، مشت جرذان بيتي على العصىّ! فقال لها: ألطفت في السؤال، لا جرم.

.[سورة الأنبياء: الآيات 85- 86]:

{وَإِسْماعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (85) وَأَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ (86)}.
قيل في ذى الكفل: هو إلياس. وقيل: زكريا. وقيل: يوشع بن نون، وكأنه سمى بذلك لأنه ذو الحظ من اللّه والمجدود على الحقيقة. وقيل: كان له ضعف عمل الأنبياء في زمانه وضعف ثوابهم. وقيل: خمسة من الأنبياء ذوو اسمين: إسرائيل ويعقوب. إلياس وذو الكفل. عيسى والمسيح. يونس وذو النون. محمد وأحمد: صلوات اللّه وسلامه عليهم أجمعين.

.[سورة الأنبياء: آية 87]:

{وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87)}.
{النُّونِ} الحوت، فأضيف إليه. برم بقومه لطول ما ذكرهم فلم يذكروا وأقاموا على كفرهم، فراغمهم وظنّ أنّ ذلك يسوغ حيث لم يفعله إلا غضبا للّه وأنفة لدينه وبغضا للكفر وأهله، وكان عليه أن يصابر وينتظر الإذن من اللّه في المهاجرة عنهم، فابتلى ببطن الحوت.
ومعنى مغاضبته لقومه: أنه أغضبهم بمفارقته لخوفهم حلول العقاب عليهم عندها. وقرأ أبو شرف: {مغضبا}. قرئ: {نقدر}. و{نقدّر} مخففا ومثقلا. و{يقدر} بالياء بالتخفيف. و{يقدّر} على البناء للمفعول مخففا ومثقلا. وفسرت بالتضييق عليه، وبتقدير اللّه عليه عقوبة.
وعن ابن عباس: أنه دخل على معاوية فقال: لقد ضربتني أمواج القرآن البارحة فغرقت فيها، فلم أجد لنفسي خلاصا إلا بك. قال: وما هي يا معاوية، فقرأ هذه الآية وقال: أو يظن نبىّ اللّه أن لا يقدر عليه؟ قال: هذا من القدر لا من القدرة. والمخفف يصح أن يفسر بالقدرة، على معنى: أن لن نعمل فيه قدرتنا، وأن يكون من باب التمثيل، بمعنى: فكانت حاله ممثلة بحال من ظنّ أن لن نقدر عليه في مراغمته قومه، من غير انتظار لأمر اللّه. ويجوز أن يسبق ذلك إلى وهمه بوسوسة الشيطان، ثم يردعه ويرده بالبرهان، كما يفعل المؤمن المحقق بنزغات الشيطان وما يوسوس إليه في كل وقت. ومنه قوله تعالى {وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا} والخطاب للمؤمنين {فِي الظُّلُماتِ} أى في الظلمة الشديدة المتكاثفة في بطن الحوت، كقوله: {ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ} وقوله: {يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ} وقيل: ظلمات بطن الحوت والبحر والليل. وقيل: ابتلع حوته حوت أكبر منه، فحصل في ظلمتى بطني الحوتين وظلمة البحر. أى بأنه لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أو بمعنى أى. عن النبي صلى الله عليه وسلم «ما من مكروب يدعو بهذا الدعاء إلا استجيب له» وعن الحسن: ما نجاه واللّه إلا إقراره على نفسه بالظلم.